كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والنبي صلى الله عليه وسلم حينما قرأ هذه الآية خَطَّ للصحابة خَطًّا مُسْتقيمًا، وخَطَّ حوله خطوطًا مُتعرّجة، ثم أشار إلى الخط المستقيم وقال: «هذا ما أنا عليه وأصحابي».
إذن: الهداية طريق واحد، وللضلال أَلْف مذهب، وألف منهج؛ لذلك لو نظرتَ إلى أهل الضلال لوجدتَ لهم في ضلالهم مذاهب، ولكل واحد منهم هواه الخاص في الضلال. فعليك أنْ تقرأ هذه الآية بوعي وتأمُّل وفَهْم لمراد المتكلّم سبحانه، فلو قرأها غافل لَقال: فمن تجد له أولياء من دونه، ولأتبع الثانية الأولى.
ومن هنا تتضح توقيفية القرآن، حيث دقة الأداء الإلهي التي وضعتْ كُلَّ حَرْف في موضعه.
وقوله: {أَوْلِيَآءَ} أي: نُصَراء ومعاونين ومُعينين {مِن دُونِه} أي: من بعده {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} [الإسراء: 97]
الحشْر: القيام من القبر والجمع للحساب {عَلَى وُجُوهِهِمْ} هنا تعجب بعض الصحابة، فسألوا رسول الله: وكيف يسير الإنسان على وجهه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «إن الذي أمشاهم على أرجلهم قادر أن يُمشيهم على وجوههم».
وما العجب في ذلك ونحن نرى مخلوقات الله: {فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ..} [النور: 45]
ألم تَرَ الثعبان، كيف هو سريع في مِشْيته، خفيف في حركته، فالذي خلق قادر أن يُمشِيَ من ضَلَّ في القيامة على بطنه، لأن المسألة إرادة مريد لِيُوقع بهم غاية الذِّلَّة والهوان، ويا ليتهم تنتهي بهم المهانة والمذلّة عند هذا الحدِّ، بل: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا..} [الإسراء: 97]
هذا استطراق لوسائل الإهانة، ففضلًا عن مَشْيهم على الوجوه فهم عُمْي لا يروْنَ شيئًا، ولا يهتدون، وهم صُمٌّ لا يسمعون نداءً، وهم بُكْمٌ لا يقدرون على الكلام، ولك أنْ تتصوَّر إنسانًا جمعت عليه كل هذه الوسائل ليس في يوم عادي، بل في يوم البعث والنشور، فإذا به يُفَاجأ بهْول البعث، وقد سُدَّت عليه جميع منافذ الإدراك، فهو في قلب هذا الهَوْل والضجيج، ولكنه حائر لا يدري شيئًا، ولا يدرك ما يحدث من حوله.
ولنا هنا لفتة على هذه الآية، فقد ورد في القرآن كثيرًا: صُمٌّ بُكْم بهذا الترتيب إلا في هذه الآية جاءت هكذا: {وَبُكْمًا وَصُمًّا} ومعلوم أن الصَّمَم يسبق البَكَم؛ لأن الإنسان يحكي ما سمعه، فإذا لم يسمع شيئًا لا يستطيع الكلام، واللغة بنت السماع، وهي ظاهرة اجتماعية ليستْ جنسًا وليست دَمًَا.
وسبق أنْ قُلْنا: إن الولد الإنجليزي إذا تربَّى في بيئة عربية يتكلم بالعربية والعكس؛ لأن اللغة ليست جنسًا، بل ظاهرة اجتماعية تقوم على السماع، فما تسمعه الأذن يحكيه اللسان. حتى العربي نفسه الذي يعيش في بيئة عربية، إلا أنه لم يسمع هذه الألفاظ الغريبة المتقعِّرة لا يستطيع محاكاتها ولا يعرف معناها.
لكن في هذه الآية جاء البكَم أولًا، لماذا؟ لأنه ساعة يُفاجأ بهوْلِ البعث والحشر كان المفروض أن يسأل أولًا عَمَّا يحدث، ثم يسمع بعد ذلك إجابة على ما هو فيه، لكنه فُوجئ بالبعث وأهواله، ولم يستطع حتى الاستفسار عَمَّا حوله، وهكذا سبق البكَم الصَّمَم في هذا الموقف.
وهنا أيضًا اعتراض لبعض المستشرقين ومَنْ يُجارونهم مِمَّنْ أسلموا بألسنتهم، ولم تطمئن قلوبهم لنور الله، يقولون: القرآن يقول: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا} [الإسراء: 97] فينفي عنهم الرؤية، وفي آيات أخرى يقول: {حَتَّى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ..} [مريم: 75]{وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا..} [الكهف: 53]
فأثبت لهم الرؤية، فكيف نجمع بين هذه الآيات؟ والمتأمل في حال هؤلاء المعذَّبين في موقف البعث يجد أن العمى كان ساعة البعث، حيث قاموا من قبورهم عُمْيًا لِيتحققَ لهم الإذلال والحيرة والارتباك، ثم بعد ذلك يعودون إلى توازنهم ويعود إليهم بصرهم ليشاهدوا به ألوان العذاب الخاصة بهم، وهكذا جمع الله عليهم الذل في الحاليْن: حال العمى وحال البصر.
لذلك يقول تعالى: {لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَاذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق: 22]
ثم يقول تعالى: {مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} [الإسراء: 97] مأواهم: أي: مصيرهم ونهايتهم. خَبَتْ: خبت النار. أي: ضَعُفَت أو انطفأتْ، لكن ما دام المراد من النار التعذيب، فلماذا تخبو النار أو تنطفئ؟ أليس في ذلك راحة لهم من العذاب؟
المتأمل في الآية يجد أن خفوت النار وانطفاءها هو في حَدِّ ذاته لَوْنٌ من العذاب؛ لأن استدامة الشيء يُوطِّن صاحبه عليه، واستدامة العذاب واستمراره يجعلهم في إِلْف له، فإنْ خَبتِ النار أو هدأتْ فترةً فإنهم سيظنون أن المسألة انتهت، ثم يُفاجئهم العذاب من جديد، فهذا أنكَى لهم وآلم في تعذيبهم.
وهذا يُسمُّونه في البلاغة اليأس بعد الإطماع، كما جاء في قول الشاعر:
فَأصْبَحْتُ مِنْ لَيْلَى الغَداةَ كَقَابِضٍ ** عَلَى المَاء خَانَتْهُ فُرُوجُ الأَصَابِع

في السجون والمعتقلات يحدث مثل هذا، فترى السجين يشتد به العطش إلى حَدٍّ لا يطيقه، فيصيح بالحارس ويتحنن إليه ويرجوه كوبًا من الماء، فيأتي له بكوب الماء حتى يكون على شَفَتَيْه، ويطمع في أنْ يبلّ ريقه ويطفئ غُلَّته، فإذا بالحارس يسكبه على الأرض، وهذا أنكى وأشدّ في التعذيب.
وقد عبر الشاعر عن هذا المعنى بقوله:
كَمَا أبرقَتْ قَوْمًَا عِطَاشًا غَمَامَةٌ ** فَلَمَّا رَجَوْهَا أقْشَعَتْ وتَجلَّت

أي: ساعة أَنْ رأوْهَا، واستشرفوا فيها الماء إذا بها تنقشع وتتلاشى، وتُخيِّب رجاءهم فيها.
وكذلك من ألوان العذاب التي قد يظنُّها البعض لَوْنًا من الراحة في جهنم والعياذ بالله، أن الله تعالى يُبَدِّل جلودهم بجلود أخرى جديدة، لا رحمةً بهم بل نكايةً فيهم، كما قال تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ..} [النساء: 56].
لأن الجلود إذا نضجتْ وتفحَّمت امتنع الحِسُّ، وبالتالي امتنعتْ إذاقة العذاب، إذن: العلة من تبديل الجلود تجديد الحسِّ ليذوقوا العذاب إذاقةً مستديمة. ومنذ عهد قريب كانوا يظنون أن الحسَّ يأتي من المخ، إلا أنهم لاحظوا على الإنسان إحساسًا قبل أن يصل شيء للمخ.
فمثلًا: لو أشرت بأصبعك إلى عين إنسان تراه يُغمِض عينه قبل أنْ تلمسه، وفسَّروا ذلك بما يسمونه العكس في النخاع الشوكي، ثم توالت البحوث للتعرف على مناط الحسِّ في الإنسان أيْن هي؟ إلى أن انتهت تلك الأبحاث إلى ما أخبر به القرآن منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا من الزمان، من أن الجلد هو مركز الإحساس في الإنسان، بدليل أنك إذا أخذتَ حقنة مثلًا، فبمجرد أن تخترق طبقة الجلد لا تشعر بألمها.
فمن أين عرف العرب هذه النظريات العلمية الدقيقة؟ ومَنْ أخبر بها الرسول صلى الله عليه وسلم؟ إنه لَوْنٌ من ألوان الإعجاز القرآني للعرب ولغيرهم.
ثم يقول الحق سبحانه: {ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا...}.
{ذَلِكَ} أي: ما حدث لهم من العذاب الذي تستبشعه أنت {جَزَآؤُهُم} أي: حاق بهم العذاب عَدْلًا لا ظُلْمًا، فإياك حين تسمع آيات العذاب هذه أن تأخذَك بهم رَأْفة أو رحمة؛ لأنهم أخذوا جزاء عملهم وعنادهم وكفرهم، والذي يعطف قلوب الناس على أهل الإجرام هو تأخير العقاب.
فهناك فَرْقٌ بين العقوبة في وقت وقوع الجريمة، وهي ما تزال بشعةً في نفوس الناس، وما تزال نارها تشتعل في القلوب، فإنْ عاقبتَ في هذا الجو كان للعقوبة معنىً، وأحدثتْ الأثر المرجوّ منها وتعاطفَ الناس مع المظلوم بدلَ أنْ يتعاطفوا مع الظالم.
فحين نُؤخِّر عقوبة المجرم في ساحات المحاكم لعدة سنين فلا شَكَّ أن الجريمة ستُنْسَى وتبرد نارها، وتتلاشى بشاعتها، ويطويها النسيان، فإذا ما عاقبتَ المجرم فلن يبدو للناس إلاَّ ما يحدث من عقوبته، فترى الناس يرأفون به ويتعاطفون معه.
إذن: قبل أن تنظر إلى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ..} [النساء: 56]
وإلى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} [الإسراء: 97]
انظر إلى ما فعلوه، واعلم أن هذا العذاب بعدل الله، فأحذر أنْ تأخذك بهم رحمة، ففي سورة النور يقول تعالى: {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2]
ثم يوضح سبحانه وتعالى حيثية هذا العذاب: {بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا..} [الإسراء: 98] والآيات تطلق على الآيات الكونية، أو على آيات المعجزات المؤيّدة لِصِدْق الرسول، أو آيات القرآن الحاملة للأحكام.. وقد وقع منهم الكفر بكل الآيات، فكفروا بالآيات الكونية، ولم يستدلوا بها على الخالق سبحانه، ولم يتدبّروا الحكمة من خَلْق هذا الكون البديع، وكذلك كفروا بآيات القرآن ولم يُؤمنوا بما جاءتْ به.
وهذا كله يدلُّ على نقص في العقيدة، وخَلَل في الإيمان الفطري الذي خلقه الله فيهم، وكذلك كذَّبوا بمعجزات الرسول، فدلَّ ذلك على خَلَل في التصديق.
ومن باطن هذا الكفر ومن نتائجه أنْ قالوا: {أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} [الإسراء: 98] وهذا القول منهم تكذيبٌ لآيات القرآن التي جاءتْ على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم لتخبرهم أنهم مبعوثون يوم القيامة ومُحاسَبُون، وهم بهذا القَوْل قد نقلوا الجدل إلى مجال جديد هو: البعث بعد الموت.
وقوله: {عِظَامًا وَرُفَاتًا..} [الإسراء: 98] الرفات: هو الفُتَات وَزْنًا ومعنىً، وهو: الشيء الجاف الذي تكسّر؛ لذلك جاءت لترتيب هكذا: عظامًا ورُفَاتًا؛ لأن جسم الإنسان يتحلّل وتمتصُّ الأرض عناصر تكوينه، ولا يبقى منه إلا العظام، وبمرور الزمن تتكسّر هذه العظام، وتتفتتْ وتصير رفاتًا، وهم يستبعدون البعث بعد ما صاروا عظامًا ورفاتًا.
وقوله تعالى: {أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ..} [الإسراء: 98] والهمزة هنا استفهام يفيد الإنكار، فلماذا ينكر هؤلاء مسألة البعث بعد الموت؟
نقول: لأن الكافر عنده لَدَدٌ في ذات إيمانه، ومن مصلحة آماله وتكذيب نفسه أنْ ينكر البعث، وعلى فَرْض أنه سيحدث فإنهم سيكونون في الآخرة سادة، كما كانوا سادةً في الدنيا. وهؤلاء القوم يفهمون الحياة على ظاهرها، فالحياة عندهم هي الحركة الحسية التي يمارسونها، وبها يعيشون حياتهم هذه، ولا يدركون أن لكل شيء حياةً تناسبه.
فمثلًا: علماء الجيولوجيا والحَفْريات يقولون: إن الأشياء المطمورة في باطن الأرض تتغّير بمرور الزمن، وتتحول إلى موادّ أخرى، إذن: ففيها حركة وتفاعل أو قُلْ فيها حياة خاصة بها تناسبها، فليست الحياة قاصرة على حركتنا في الحياة الدنيا، بل للحياة معنى آخر أوسع بكثير من الحياة التي يفهمها هؤلاء.
فالإنسان الحيّ مثلًا له في مظهرية أموره حالتان: حالة النوم وحالة اليقظة، فحياته في النوم محكومة بقانون، وحياته في اليقظة محكومة بقانون، هذا وهو ما يزال حيًا يُرزَق، إذن: عندما نخبرك أن لك قانونًا في الموت وقانونًا في البعث فعليك أنْ تُصدِّق.
ألم تَرَ النائم وهو مُغْمَض العينين يرى الرؤيا، ويحكيها بالتفصيل وفيها حركة وأحداث وألوان، وهو يدرك هذا كله وكأنه في اليقظة؟ حتى مكفوف البصر الذي فقد هذه الحاسة، هو أيضًا يرى الرؤيا كما يراها المبصر تمامًا ويحكيها لك، يقول: رأيتُ كذا وكذا، كيف وهو في اليقظة لا يرى؟
نقول: لأن للنوم قانونًا آخر، وهو أنك تدرك بغير وسائل الإدراك المعروفة، ولك في النوم حياة مستقلة غير حياة اليقظة. أَلاَ ترى الرجلين ينامان في فراش واحد، وهذا يرى رؤيا سعيدة مفرحة يصحو منها ضاحكًا مسرورًا، والآخر إلى جواره يرى رؤيا مؤلمة مُحزِنة يصحو فيها مُكدّرًا محزونًا، ولا يدري الواحد منهم بأخيه ولا يشعر به، لماذا؟
لأن لكل منهما قانونه الخاص، وحياته المستقلة التي لا يشاركه فيها أحد.
وقد ترى الرؤيا تحكيها لصاحبك في نصف ساعة، في حين أن العلماء توصلوا إلى أن أقصى ما يمكن للذهن متابعته في النوم لا يتجاوز سبع ثوان، مما يدلُّ على أن الزمن في النوم مُلْغي، كما أن أدوات الإدراك ملغاة، إذن: فحياتك في النوم غير حياتك في اليقظة، وكذلك في الموت لك حياة، وفي البعث لك حياة، ولكل منهما قانون يحكمها بما يتناسب معها.
وقد يقول قائل عن الرُّؤَى: إنها مجرد تخيُّلات لا حقيقةَ لها، لكن يَرُدّ هذا القول ما نراه في الواقع من صاحب الرُّؤْيا الذي يحكي لك أنه أكل طعامًا، أو شرب شرابًا ما يزال طَعْمه في فمه، وآخر ضُرِب، ويُريك أثر الضرب على ظهره مثلًا، وآخر يصحو من النوم يتصبَّب عَرقًا، وكأنه كان في عراك حقيقي لا مجرد منام.
فالحق سبحانه وتعالى يريد أنْ يُوضّح لنا أننا في النوم لنا حياة خاصة وقانون خاص، لنأخذ من هذا دليلًا على حياة أخرى بعد الموت.
والعلماء قالوا في هذه المسألة بظاهرة المتواليات، والمراد بها: إذا كانت اليقظة لها قانون، والنوم له قانون ألطف وأخفّ من قانون اليقظة، فبالتالي للموت قانون أخفّ من قانون النوم، وللبعث قانون أخف من قانون الموت.
وقد حَسَم القرآن الكريم هذه القضية في قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ..} [القصص: 88]
أي: كلُّ ما يُقَال له شيء في الوجود هالك إلا الله تعالى فهو الباقي، والهلاك ضدّه الحياة، بدليل قوله تعالى: {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ..} [الأنفال: 42] إذن: لكل شيء مهما صَغُر في كَوْن الله حياة خاصة تناسبه قبل أنْ يعتريه الهلاك.